العرب بين ثقافتين

كلما ازداد اكتشاف العلماء لثروات جديدة زادت القناعة لديهم أن الثروة الأغلى هي الإنسان وأن العمران البشري أهم بكثير من العمران الحجري، لأنه الأساس والمنطلق لكل أشكال العمران الأخرى،

فالإنسان الذي اكتشف النار والحديد واستطاع تدجين النبات والحيوان واكتشف الفحم الحجري والبترول والآلة واكتشف الطاقة الذرية أدرك أن كل هذه الثروات تنضب بالاستعمال إلا الثروة البشرية فإنها تزداد وتنمو بالاستعمال وعلى هذا نجد أن الحضارات الإنسانية التي ركزت على العمران المادي زالت بزواله أما الحضارات التي بنت وزرعت في العقول فقد استمرت وأنجزت وقاومت وامتلكت القدرة على الاستمرار، إن الذي يدعو إلى طرح هذه القضية هو مانشهده على الصعيد الدولي من صعود قوى وهبوط أخرى فالملاحظ أن أغلب الدول العربية خاصة تلك التي حباها الله بالثروات الباطنية وغيرها، قد أنفقت الكثير من الثروات على جانب العمران من أبنية شاهقة وفنادق ومطاعم ومتاجر كبرى وسيارات فارهة، ولا شك أن المظاهر الحضارية هي مسألة مهمة وأحد عناوين المدنية ولكن الأهم من ذلك هو البناء في البشر أو ما يطلق عليه المعمار البشري ،فاقتناء ناتج التقانة شيء وتوطين التقانة شيء آخر بل وهو الأهم ،ولعل التوازن بين التنمية البشرية والتنمية الاقتصادية أمر مهم جداً في مقاييس التطور الحضاري فالملاحظ أن عمليات التنمية في تلك الدول قد ركزت على مظاهر الحياة الاستهلاكية والعمران بشكل أساسي ولم تول التنمية البشرية ما تستحقه من اهتمام، وخاصة في إطار البناء الثقافي والعلمي والتكنولوجي فاستبدل المنتج بالعقل المنتج فنشأ نمو مشوه لا يعكس المظهر فيه الجوهر، وبرز ما يمكن تسميته ظاهرة الحضارة المنتجة والحضارة المستهلكة .‏

إن بناء مجتمع عصري وحضاري يستوجب توجيه عجلة التنمية في البلدان التي تسير باتجاه التطور والتنمية نحو الاستثمار في العقول واقتصاد المعرفة ونشر الثقافة الرفيعة المنفتحة وإيلاء البحث العلمي ما يستحقه من اهتمام ،لأن الأمن المعرفي أصبح جزءاً من منظومة الأمن القومي للدول والأمم التي استثمرت في العقول استطاعت أن تنافس في السلم الحضاري على الرغم مما واجهته من نكبات وحروب ودمار، ومن المفيد في هذا المضمار الاستشهاد بما قاله السفير الياباني في الهند لرئيس وزرائها عند استقباله له بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية حيث تحدث رئيس وزراء الهند مبيناً أن الدولة لكي تكون قوية وعظيمة يجب أن تمتلك ثروات باطنية وجغرافيا واسعة وعدداً كبيراً من السكان وهذا ما لا يتوفر في اليابان عندها عقب السفير الياباني بكل كياسة اليابانيين قائلاً :عفواً سيدي السر تحت القبعة ويقصد بذلك أن القوة هي باستثمار العقول لا الثروات الباطنية وغيرها فقط.‏

إن التنمية عملية مركبة ومعقدة أساسها ورأسمالها الإنسان ونواتها العقل المبدع المنعتق من كل أشكال القيود، المتحرر من كل أشكال الخرافة والأساطير الباحث والكاشف عن حقيقة الأشياء والظواهر واللاهث وراء المعرفة والاختراع والإبداع، هذا العقل هو السر وراء كل أشكال التطور والتنمية والحضارة لذا نجد أن الحضارة العربية الإسلامية التي امتدت من الأندلس غرباً إلى الصين شرقاً قد ارتكزت في خطابها وفعلها وانجازها على العقل والمعرفة، فكانت دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان والكوفة وغرناطة وغيرها حواضر علمية وثقافية ولم تفقد تلك الإمبراطورية العظيمة دورها وأهميتها وشأنها إلا بعد دخولها كهوف الجهل وسيطرة الفكر الظلامي والتعصب الأعمى والنزوع إلى الإثرة ومظاهر البذخ والترف وسطوة المال والجاه .‏

إن عالم اليوم يعيش عصر اقتصاد العلم والمعرفة ومنافسة حضارية وليس صراع حضارات كما يشاع ، والمعادلة هي باختصار شديد بين قوى تتسابق وتتنافس باتجاه المستقبل، وقوى أخرى تتقاتل وتتصارع على الماضي منافسة خلاقة على الأرض وحروب وهمية على السماء ؟ .

جميع الحقوق محفوظة لشبكة همسات المحبة

العرب بين ثقافتين

العرب بين ثقافتين